الأطفال يولدون محبين لكل المخلوقات، لا أسود ولا أبيض، لا إنسان ولا حيوان، لا تفرقة أو نبذ أو حقد. ولا كائن من كان يستطيع جبر النفس على التقنّع بالخبث. لكن مهما بدونا ذوي عزائم لا تفتر، الأيام تصيبنا بالحسرة تارة، وبالبؤس أخرى. فجأة يصل الاكتئاب للذروة ونجد الخواء يحيط بنا من كل حدب وصوب، آخذًا إيانا نحو هاوية قاتمة لا قرار لها. الأوقات تمر ببطء، العزائم تفتر، والقلوب تتهاوى بين نكبة والأخرى. لكن في النهاية يمكن للصدفة أن تغيّر كل شيء! يمكن للقدر أن يعطيك فرصة جديدة! فرصة لاحتضان الأحلام الضائعة من جديد! وهذا ما يقدمه هذا الفيلم!
القصة
القصة تحكي عن الفتى اليافع «آيج» الذي يعيش في عالم مُبرمج بالكامل. نظام الحكم متمثل في السلطة الجبرية، ولعدم الوقوع بين براثنها عليك بالانصياع للأوامر، وبالطبع أيضًا للتعليمات الصباحية التي تسمعها كل يوم في طريقك للمدرسة بأنك ستكون مواطنًا صالحًا ينفذ ما يقال له. والد آنج توفى منذ فترة وهو يحلم بالطيران نحو السماء، يرنو إلى الأفق الأعلى، غير مهتم بكون ما يفعله لإثم يُعاقب عليه مجتمعه. فالذي يذهب للسماء لآثم! والذي يهبط منها لسفير من الجحيم! وفجأة تهبط له فتاة من أعلى، مرتبكة، خائفة، وتخشى السقوط للأعلى أيضًا. فالبشر حاولوا يومًا التلاعب بالجاذبية فانقلبت الأخيرة عليهم ودمرت حضارتهم وسحبتها نحو السماء. البعض نجى وكوّن مدينة جديدة منضبطة، والبعض الآخر نجى وكوّن مدينة صبغتهم بقواعد فيزيائية جديدة جعلتهم مقلوبين رأسًا على عقب بالنسبة للناجين الآخرين. المدينة الحضارية تتقفى أثر الآثمين من المدينة المقلوبة ليقضوا عليهم. فنحن الآن لدينا آثمة أمام ذلك الفتى المُحطم. فهل سيبلّغ عنها؟ أم ستكون تذكرته نحو النجوم؟ هذه هي متعة مشاهدة «Patema Inverted»!
انطباع عن القصة
الآن نحن أمام عمل فريد تمامًا من جميع الجوانب. مميز في الفكرة، الرواية، والحالة الشعورية. ببساطة تبدأ الفيلم وحالة نفسية رتيبة تكتنفك بقسوة، ومع مرور الوقت تتوغل تلك الهالة بداخلك حتى تكاد تشعر بالحزن يجثم بمرارته على قلبك. لكن سرعان ما تتغير الأحداث فجأة وتبزغ شمس جديدة بالجوار، فتنفرج همومك وتحدق بها حتى تحبسها بداخلك لتشعرك بالدفء من جديد. ستتورد وجنتاك وينفرج فاهك بشدة مسفرًا عن العديد من الابتسامات، ومُطلقًا لبعض الضحكات بالمنتصف. ثم يستدرجك الكاتب إلى حدث تلو الآخر في سلاسة فائقة، فاصلًا بينك وبين الواقع، واضعًا إياك بالمنتصف بين عالمين مختلفين، غريبين، ومقلوبين بداخل أرض واحدة!
تضافرت جهود الكتابة، الإخراج، الموسيقى، والرسم لصنع تحفة فنية نفسية ذات تأثير بالغ على أقسى القلوب. لأن القصة تناقش مفهوم الحرية، وكيف للإنسان أن يكون حرًّا في عالم تحكمه القواعد القاسية من جهة، وليس فيه أرض صلبة ترتكز عليها من أخرى. فكرة خلق عالمين مقلوبين رأسًا على عقب لتوضيح مدى الألم النفسي بالضياع، مما صاغ مفهومًا جديدة للحرية: أن الحرية لا تنبع فقط من كون السماء مفتوحة أمامك، بل في جرأتك لاقتحامها معتبرًا إياها أرضًا جديدة ستعمرّها وحدك. المغزى العميق لتلك الفكرة لمدهش بحق، وذلك ما جعل هذا الفيلم يحتل مرتبة خاصة في قلبي.
الشخصيات
الشخصيات تم طرحها واحدة تلو الأخرى في سلاسة، مما جعل الظهور المتعاقب للخير والشر أمرًا مشجعًا على المتابعة الحثيثة لمعرفة الذي سيقع بعد قليل. تمتاز الشخصيات ببساطة الحاضر وعمق الماضي، فلكل شخصية لمسات حياتية ونفسية خاصة خلقتها بتميّز، وجعلتها جديرة بالإعجاب. «باتيما» البطلة، صفاتها تُعتبر مثالًا حيًّا لأي فتاة تريد أن تكون ذات شأن أمام نفسها قبل الجميع. حيث تذرع الأرض جئية وذهابًا بحثًا عن الجديد، إنه الفضول الذي يخلق الإبداع ويُغيّر مصير الأمم، هذه هي الرسالة الخفية من تلك الشخصية. وأيضًا «آيج» الذي رسّخ فكرة أن الحياة لنكبات متوالية، لكن الشجاعة هي أن نتقبل تلك النكبات ونتعامل معها بالتعاون مع الآخرين، وألّا نحبسها بداخلنا حتى تستطير وتقوّض حياتنا، واضعة إيانا في صندوق أسود، بارد، ومقبض، يُدعى الاكتئاب.
الرسم والتحريك
أسلوب الرسم مخملي وهادئ يغلفك بهالة من الراحة من البداية للنهاية. آلاف التفاصيل تم الاهتمام بها، بداية من ذرّات التراب الدقيقة، وصولًا لأعقد التراكيب البنائية. التحريك سلس ومُساير لإيقاع الأحداث. الإخراج كان مناسبًا جدًا لمدى تسارع الأحداث وسيرها، فزوايا الكاميرا تمركزت في مواضع جعلت من بعض المشاهد سريعة، وأخرى العكس، لتكوين عدة نوتات موسيقية هادئة مرة وحادة أخرى، جاعلة إياها متناسقة كمعزوفة كلاسيكية راقية، تصدح من جرامافون عتيق يسبح في السماء. أستوديو «Rikka» وأستوديو «Purple Cow» أحسنا عملًا بالفعل!
الموسيقى
الموسيقى بشكل عام من البداية قد لا تجذب انتباهك بشدة، لأن الأحداث من مدى تعمقك فيها قد لا تلحظ النوتات الخفية خلف الأداء الصوتي والمؤثرات الصوتية الأخرى. لكن يمكن الجزم بأن هناك العديد من المقطوعات البارزة بذلك الفيلم والتي كوّنت حالات شعورية لا توصف. وبالنسبة لي أفضل ما سمعت أذناي بالفيلم كله كانت أغنية النهاية التي تحمل عنوان «Patema Inverse»، ويُمكنكم تحميلها مباشرة من هنا.
رأي شخصي
من أجمل أفلام الأنمي التي شاهدتها في الفترة الأخيرة وفعلًا جعلني أبكي وحفّز بداخلي العديد من الذكريات المتعلقة بمفهوم الحرية الذي أرنو إليه. ودخل في قائمة الـ TOP 10 خاصتي بلا شك. تلك الحالة الشعورية التي أعطاها لي كفيلة باستحقاقه تقييمًا عاليًا جدًا. أرجو أن تتحقق تلك الحالة لديكم أيضًا، وأن يمخر الفيلم عباب نفوسكم ليظهر منابت البراءة فيها، كما فعل معي.
تقييمي الشخصي: 10/9
تقييم ماي آنمي ليست: 10/8.19
أتمنى أن تكون نالت المراجعة رضاكم، ونراكم في مراجعات أخرى على جيك بوست ^^